تسلق إرواندي، الذي كان يبلغ من العمر 44 عاماً في ذلك الحين، عموداً معدنياً وخرق السقف المصنوع من الأسبستوس والصفيح. وقال في تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "لا أعرف من أين جاءت قوتي". وخرج إرواندي ليجد مدينة أغرقتها مياه البحر: "بدا الأمر وكأن الناس يجلسون على سجاد طائر ويركبون المراتب". جلس إرواندي على السطح لمدة ثلاث ساعات يدخن لقتل الوقت بينما كانت المياه تنحسر. وقبل بضع سنوات، كانت إحدى مقولات حركة آتشيه الحرة الشهيرة هي "الاستقلال لا يبعد سوى الزمن الذي يستغرقه تدخين سيجارة واحدة".
في ذلك الوقت، كانت آتشيه تخضع لحالة "طوارئ عسكرية" (بعد فترة من تطبيق الأحكام العرفية الكاملة) لأكثر من عام، كجزء من رد فعل جاكرتا على الصراع الانفصالي الذي كان يزداد عنفاً والذي وضع حركة آتشيه الحرة في مواجهة الجيش الإندونيسي منذ سبعينيات القرن الماضي. وعندما ابتلع المحيط جزءاً كبيراً من ساحل الإقليم، فعل أكثر من تحرير إرواندي، الذي كانت المخابرات الإندونيسية قد ألقت القبض عليه قبل عدة أشهر في جاكرتا فقد أوقفت الكارثة أعمال العنف لإعطاء فرصة للاستجابة الإنسانية والتعاون غير المسبوق بين جاكرتا والمتمردين.
هذا هو الجزء الثاني من سلسلة من خمسة أجزاء تلقي نظرة على تسونامي المحيط الهندي. |
الجزء الأول: آتشيه في الذكرى العاشرة، نظرة معمقة على جهود الاستجابة للكارثة |
"خلال فترة تطبيق الأحكام العرفية، حرصت جاكرتا على إبقاء آتشيه مغلقة ومعزولة. ولكن أمواج التسونامي فتحت البوابة تماماً. وفجأة، تسلطت أنظار العالم أجمع على آتشيه، وبالتالي، اضطرت الحكومة للتفاوض معنا،" كما أفاد إقبال فارابي، وهو محام متخصص في حقوق الإنسان في آتشيه كان يعمل في مؤسسة المساعدة القانونية ووكالة إعادة الإعمار الحكومية (BRR)، في حديث إلى شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين). وأضاف قائلاً: "كانت جاكرتا تعرف أنها إذا لم توقف العمل بقانون الطوارئ العسكري، ستكون إعادة الإعمار مستحيلة، في إشارة إلى ما وصفها الباحث في البنك الدولي باتريك بارون آنذاك بأنها "فرصة لحفظ ماء وجه كلا الجانبين".
موروث المعاناة
إن تاريخ آتشيه مليء بجولات الصراع، ففي عام 1950، عندما حدت جاكرتا من سلطات الحكم الذاتي الفعلي في إقليم آتشيه بإعلان أنه جزء من إقليم سومطرة، أجبرت المقاومة العنيفة العاصمة الإندونيسية على إعادة الوضع الإقليمي وسلطات صنع القرار الثقافي والديني. ولكن بحلول أواخر السبعينيات، كانت المشاعر الانفصالية قد بلغت ذروتها مرة أخرى، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن استخراج النفط والغاز في آتشيه أدى إلى تأجيج المزيد من الاستياء من جاكرتا عندما لم يستفد مواطنو الإقليم إلا بالقليل من الأرباح.
وتجدر الإشارة إلى أن حركة آتشيه الحرة تشكلت في السبعينيات، وشنت معركة استقلال عنيفة كان لها تأثير إنساني كبير على المدنيين.
وخلال الفترة من عام 1999 إلى عام 2001، على سبيل المثال، نزح ما يقدر بنحو 200,000 شخص بسبب العنف؛ وفي عام 2003، عندما أعلنت جاكرتا الأحكام العرفية في آتشيه، نزح ما يقدر بنحو 125,000 شخص في أقل من عام واحد. وأوضح أحد الباحثين خلال ورشة عمل في مايو 2004 في مركز دراسات اللاجئين بجامعة أكسفورد إلى أن "الأحكام العرفية دشنت جولة جديدة من الصراع المسلح في آتشيه ظهر خلالها النزوح الداخلي، القسري بالفعل، للسكان المدنيين كاستراتيجية حربية متعمدة".
وكان العاملون في المجال الإنساني الذين استجابوا للكارثة يعملون في بيئة معقدة مع أنواع متعددة من المستفيدين. "كان هناك تصور لدى الدول المانحة أنه من الصعب تبرير التمويل الكبير لإعادة الإعمار بعد الحرب طالما أن آتشيه تحصل بالفعل على مثل هذه المستويات العالية من المساعدات لمواجهة آثار التسونامي".
وفي هذا السياق، قالت رينا ميوتيا، التي كانت تعمل لدى مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) والبنك الدولي خلال الاستجابة للتسونامي: "أوجدت الاستجابة فئتين من سكان آتشيه لم تكونا موجودتين من قبل: المتضررون من الكارثة، وغير المتضررين. واندرج ضحايا النزاع تحت فئة غير المتضررين في كثير من الأوقات".
من جانبه، يرى فارابي، محامي حقوق الإنسان والموظف السابق في وكالة إعادة الإعمار الحكومية أن "الوكالة حاولت أن تتوقع المشاكل الاجتماعية التي ستنشأ من خلال توزيع المساعدات على ضحايا الكوارث وليس ضحايا النزاعات، وحاولت أن تتمتع بقدر من المرونة كلما أمكن ذلك، ولكن كان لوكالة إعادة الإدماج (BRA)، التي أسستها حركة آتشيه الحرة بعد اتفاق السلام في عام 2005، الولاية على الأمور المتعلقة بالصراع، وبالتالي، كانت هناك مكاتب وشخصيات متنافسة".
وأوضح اسكندر (اسم واحد فقط)، الذي يعمل في الحكومة المحلية في لوكسيوماوى على الساحل الشرقي لآتشيه، أن اختيار مجتمعات معينة كمستفيدين أدى إلى تغييرات مرئية أثارت توترات محلية.
"كانت هناك غيرة اجتماعية بين ضحايا التسونامي وضحايا النزاع. كان بمقدورنا أن نرى ذلك بوضوح لأن بعض القرى رفضت قبول المساعدات من وكالات ينظر إليها على أنها أسوأ من غيرها، ولأن الجميع في المجتمعات المحلية أصبحوا يشكّون في بعضهم البعض".
العقود والمقاتلون والكفاءة
ومثل العديد من مسارح الحرب الأهلية في جميع أنحاء العالم، عانى الاقتصاد في زمن الحرب في آتشيه من فساد على نطاق واسع وتواطؤ بين الحكومة والمتمردين. وفي هذا الصدد، قال إدوارد أسبينال أستاذ العلوم السياسية في جامعة أستراليا الوطنية: "على السطح، خاضت حركة آتشيه الحرة والمسؤولون الحكوميون صراعاً مميتاً ضد بعضهم البعض، ولكنهم تحت السطح، كانوا يرتبطون بعلاقات حميمة، ويسعون للحصول على مميزات اقتصادية متبادلة".
واحتفظت حركة آتشيه الحرة بنفوذ سياسي كبير في زمن السلم، بما في ذلك ما أسماه أسبينال "الاستغلال المفترس لمرحلة ما بعد التسونامي وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع" من أجل الفوز بالعقود وتوزيع فرص العمل والمال على شبكات المقاتلين السابقين.
فاز إرواندي، الذي كان قد فر من آتشيه في البداية حتى لا يتم القبض عليه مرة أخرى، بمنصب حاكم آتشيه في ديسمبر 2006، وذلك بفضل الناخبين الشبان الذين انحازوا لحركة آتشيه الحرة. وتبنى موقفاً متشدداً ضد الفساد وحتى حظر قطع الأشجار (مصدر الدخل الرئيسي لحركة آتشيه الحرة والجيش الإندونيسي خلال الحرب).
وذكرت مجموعة الأزمات الدولية في عام 2007 أن إرواندي كان "محبوباً وخالياً من أي شبهة فساد أو إساءة استخدام للسلطة، ولكنه تعرض لانتقادات بسبب ... عدم معرفته بكيفية وضع أو تنفيذ السياسات." وبدأت الانقسامات السياسية داخل عمليات حركة آتشيه الحرة تزداد عمقاً بسرعة، وتصاعد الاستياء العام من حكم المتمردين السابقين.
تعفن أرباح السلام؟
أدت المشاحنات السياسية (بما في ذلك انقسام مؤيدي حركة آتشيه الحرة إلى حزبين في عام 2012) وضعف الحكم إلى استمرار معاناة آتشيه من بطء التنمية، ومستويات منخفضة من العنف والترهيب، وتنامي السخط الشعبي.
ويحتفظ حزب حركة آتشيه الحرة الرئيسي بما يسميه معهد تحليل سياسات النزاع (IPAC)، وهو مؤسسة بحثية مقرها جاكرتا، "هيكلاً سياسياً شعبياً لا يمكن أن ينافسه أي حزب آخر ... وموارد أكثر بكثير من الأطراف الأخرى ... واستخدام الترهيب والعنف بلا تردد". مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الصفات، فقد أظهرت انتخابات مايو 2014 تراجعاً في الدعم. وأشار معهد تحليل سياسات النزاع إلى أن "خمس سنوات في السلطة لم تحقق الكثير من التحسن الملموس في حياة مواطني آتشيه العاديين إذ لا يزال الفقر مزمناً، والفساد منتشراً، وكذلك ابتزاز قادة حركة آتشيه الحرة السابقين للشركات المحلية ومشاريع الأشغال العامة".
ابتداءً من عام 2008، حصل إقليم آتشيه على صندوق الحكم الذاتي الخاص (SAF) من الحكومة الإندونيسية المركزية، الذي يصنف على أنه نسبة مئوية من عائدات النفط التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات، "والمراد منه تمويل تطوير وصيانة البنية التحتية، والتمكين الاقتصادي للمواطنين، والقضاء على الفقر، وتمويل قطاعات التعليم والرعاية الاجتماعية والصحة". ولكن في عام 2012، وجد باحث في معهد آتشيه لدراسات المحيط الهندي (ICAIOS) أن التخطيط غير الفعال لاستخدام أموال صندوق الحكم الذاتي الخاص في أول عامين عمق الفجوة بين آتشيه وبقية إندونيسيا في مؤشر التنمية البشرية.
ويرى فارابي أنه حتى مع تقديم جاكرتا لميزانية الحكم الذاتي الخاصة هذه إلى باندا آتشيه والتي تخضع للاستخدام التقديري للإقليم، فإن "عقلية السياسيين الآن هي أن هذا - كل هذا - المال مخصص لنا، ويمكننا أن نأخذه ونفعل به ما يحلو لنا لأنه تعويض عن معاناتنا".
وأضاف فارابي في حديثه إلى شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) أنه على الرغم من أن اعضاء حركة آتشيه الحرة قد أظهروا كفاءة سياسية خلال مفاوضات السلام، لم يتمكن قادتهم من العمل بشكل فعال في الحكومة: "ليس هناك التزام باستخدام [أموال الدولة] في أغراض التنمية - وهذه هي حالة الطوارئ التي تواجهنا اليوم".
ولا يزال الاستياء مستمراً في التفاقم بين المقاتلين السابقين أيضاً. ففي الأشهر الأخيرة، هددت بعض الفصائل السابقة في حركة آتشيه الحرة بحمل السلاح بسبب خيبة أملهم في الحكومة.
وعرض جندي سابق في حركة آتشيه الحرة يعيش في مدينة بيروين الساحلية الشرقية على شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) مقطع فيديو على هاتفه تم تصويره في أواخر التسعينيات ويظهر جنود الجيش الإندونيسي يضربون رجالاً من آتشيه في الأماكن العامة.
وقال: "نحن لم نكسب هذه الحرب، بل قبلنا تسوية سلمية. وبعد ذلك، جاء كل المال لإعادة بناء هذا المكان، ثم تم إهداره".
kk/cb-ais/dvh
This article was produced by IRIN News while it was part of the United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs. Please send queries on copyright or liability to the UN. For more information: https://shop.un.org/rights-permissions